قطعة مطاطية مكعبة الشكل لا تزيد مساحتها الجغرافية عن ستة سنتيمترات مربعة ولكنها تفعل العجائب … فهي التي تعطي الطفل في سنين عمره الأولى الثقة بأن كراسته ستبقى نظيفة أثناء محاولته رسم الحروف أو تقليد الخطوط أو الخروج عن السطر …. أوالخربشات الزائدة بقلم الرصاص … ولأنه يعلم أن باستطاعته تعديل ما اقترفته أنامله الصغيرة أثناء تلك المحاولات … فتراه تارة يكتب ثم يمسح دون أن يكون هناك خطأ إملائي أو هجائي ولكنه يحب أن يمسك بالماسحة أو الممحاة ليثبت لنفسه أنه قادر على أن يفعل شيئاً أو بالأحرى قادر على المسح …
فهي للمسح أولاً وأخيراً …
تذكرني هذه الماسحة المطاطية وشكلها الهندسي المتسق بخارطة فلسطين ….
ويذكرني عملها بالبلدوزر … فهذه الآلة تمتلك قدرة عجيبة على المسح دون أن تستخدم المطاط ، حيث استعيض عن ذلك بمخلب فولاذي ضخم يندفع أمامه بانفعال يتلاءم مع زمجرة الجنزير المتمترس تحت مقعدة السائق … الذي يأمر تلك الماسحة الحديدية بالهدم والتسوية والاقتلاع …
لم أملك وأنا أشاهد جرافات قوات الاحتلال الإسرائيلية وهي تهدم مبنى المقاطعة في رام الله بفلسطين المحتلة أو حين كانت تطيح بالورش أو بيوت الصفيح أو حين كانت تنفرد بحقل زيتون أو عنب أو بيارة برتقال أينعت ثمارها في أطراف الضفة أو مشارف القطاع … أو حين كانت تلك القوات تأمر بشق طريق التفافي أو مباشر بين القرى أو وسط المزارع …
أو حين كانت تندفع لتسوي بالأرض منزلا لشهيد باع الدنيا و متاعها أو منزلاً لأحد أقاربه أو أباعده … إلا أن أقف عن المقارنة وأحبس أنفاسي ,ابحث عن كلمات تتلاءم مع بشاعة وفظاعة ما تقترفه أيدي المحتلين الصهاينة في مسلسل إجرامي يسعى لتفريغ الأرض من أصحابها الشرعيين …
ومع استمرار ذلك المسلسل تستمر معاول البناء في زرع أشجار الزيتون وكتابة السطور فوق كل كومة حجارة خلفتها تلك الجرافات وفوق كل صخرة اقتلعتها من باطن الأرض الثكلى … أو فوق كل جذر دالية تيبست على قارعة الطريق … وفوق ذرات رمال مخيم جنين … وجباليا … ورفح … والمغازي …. والأمعري … وحارات نابلس والخليل … بحروف رواها الفلاحون بعرقهم ودمائهم …
ستكتب تلك السطور بدموع الأرامل واليتامى … كي لا تستطيع تلك الماسحات الحديدية من ابتلاعها …
وستبقى الممحاة أداة مطاطية نمسح بها شخبطة الأطفال عن كراسة الدراسة أو جدران المنزل كي يبقى الخط جميلاً وتبقى جدران المنزل والمدرسة نظيفة …
نحتاج الى تعليم أطفالنا دروساً أخرى في التربية الوطنية يستطيعون من خلالها كتابة ما يريدون دون اللجوء الى ماسحة مطاطية …
لأننا قد نحتاجها في مسح كلمات أخرى دخلت قاموس اللغة رغما عنا …. كالذل والخنوع والاستسلام والتلكؤ…
وقبل أن نطلب منهم كتابة درس المطالعة والاستعداد لدرس الإملاء لنطلب منهم كتابة التاريخ … قبل أن تدوسه جرافات الاحتلال ويصبح نسياً منسياً …